حادثة ميونخ 1972م …يوم انتصرت المقاومة الفلسطينية

إنها ليست قصة من وحي خيال مؤلف، بل نحن أمام ملحمة سطرها أبطال بأحرف من نور، ظلت سطورها باقية في عقول المقاومين ووجدانهم إلى وقتنا الحاضر.
المكان: مدينة ميونخ الألمانية؛
الزمان: 1972/09/05؛
الحدث: دورة الأوليمبياد الصيفية.
أثارت عمليات الاغتيال التي نفذها جهاز (الموساد) التابع للكيان الصهيوني ضد شخصيات فلسطينية غضب فصائل في منظمة التحرير الفلسطينية والتي دعت إلى القيام بعمليات انتقام مدوية للرد على عمليات الاغتيال وعلى القصف الصهيوني المتزايد لقواعد الفدائيين في لبنان. ولهدف آخر هو لفت انتباه العالم للقضية الفلسطينية ولمعاناة شعبها من الاحتلال الصهيوني.
برزت فكرة ميونخ عندما رفضت اللجنة الأولمبية إشراك فريق فلسطيني في الأولمبياد المقام في ميونخ بألمانيا اقترح فخري العمري (أبو محمد) مساعد القيادي في (فتح) وصلاح خلف (أبو إياد) الدخول إلى القرية الأولمبية لاحتجاز لاعبي الاحتلال الصهيوني في البداية رفض أبو إياد الفكرة ولكن أبا داود تدخل وأيد الفكرة وذلك لأن قادة الاحتلال لا يولون أية أهمية أو اعتباراً لأي شيء ولأن رياضييهم ليسوا مدنيين بل عسكريين شاركوا في مذابح وحروب ضد الفلسطينيين.
التقى أبو داوود مع أبي إياد وفخري العمري في صوفيا عاصمة بلغاريا وناقشوا أموراً تتعلق بالعملية المراد تنفيذها في ميونخ مثل البلاغ الذي سيسلمه المهاجمون للسلطات الألمانية والقائمة التي ستضم أسماء معتقلين فلسطينيين في سجون الاحتلال للطلب بإطلاق سراحهم مقابل إطلاق سراح الرياضيين وتذليل العقبات بشأن جوازات السفر للذين سينفذون العملية وتأشيرات الدخول والإقامة وتأمين وصول السلاح.
وضع قادة العملية الخطوط التفصيلية للعملية حيث يدخل الفدائيون وهم يلبسون الملابس الرياضية عن طريق السياج كأنهم فرقة رياضية عائدة بعد سهرة ويقتحمون مقر بعثة الاحتلال والرياضيون نيام، وتم الاتفاق مبدئياً على أنه إذا كان عدد الرياضيين الصهاينة مع طاقم التدريب والادارة يصل إلى ثلاثين فإن عشرة رجال يكفون لتنفيذ المهمة التي لن تطول إلا عدة ساعات.
تم تجهيز جوازات سفر أردنية لدخول الفدائيين بها إلى ألمانيا وتم دراسة تفاصيل عملية التبادل المفترضة وتجهيز لائحة تضم أكثر من مائتي أسير بدأ أبو داود عمله في رصد وجمع المعلومات عما يجري في القرية الأولمبية وما يتعلق ببعثة الاحتلال وتحديد المبنى الذي ستنزل فيه البعثة ولحقه أبو إياد في 1972/08/24 والتقيا في فرانكفورت.
كان أبو إياد قد أدخل معه الأسلحة في حقيبتين مع امرأة اسمها جوليت ورجل فلسطيني وتم الاتفاق على أنه بعد أن يعود أبو إياد وعلي في اليوم التالي إلى بيروت سيعود علي على أول طيارة ومعه قنابل يدوية وعاد أبو داود إلى ميونخ وأودع الأسلحة في حقيبتين في خزائن الودائع في المحطة وكان يحرص على تغيير مكانهما كل 24 ساعة كما وصلت حقيبة القنابل اليدوية.
تمكن أبو داود بمساعدة امرأة فلسطينية تتقن الألمانية من دخول القرية الأولمبية ورصد مكان البعثة الأولمبية عن كثب ثم تمكن أيضاً من الدخول مع يوسف نزال ومحمد مصالحة الذين سيقودان مجموعة الفدائيين والأكثر من هذا خدمته الأقدار والجرأة فدخلوا إلى مقر بعثة الاحتلال واكتملت تفاصيل خطة احتجاز الرياضيين على أرض الواقع.
عقد أبو داود اجتماعا مع يوسف نزال ومحمد مصالحة اللذين لم يكونا يعرفان سوى الخطوط العريضة للمهمة وشدد عليهما بعدم القيام بأي عمل انتقامي ضد الرياضيين الذين سيتم احتجازهم مثل القتل أو الجرح وبأن العملية هي سياسية وليست عسكرية والظهور أمام الرأي العام كمقاتلين متمالكين لأعصابهم ومعاملة المتجزين بشكل جيد والتخفيف عنهم إذا لزم الأمر والتوضيح لهم بأن الفدائيين مجبرون على توثيق أيديهم بالحبال لأسباب أمنية وأن الهدف هو مبادلتهم بأسماء 236 أسيراً فلسطينياً تضمنتهم اللائحة النهائية وتم مناقشة أية أمور قد تطرأ فمن بين المحتجزين المفترضين هناك مصارعون ورجال أقوياء وآخرون تدربوا في الجيش وإن ذلك قد يستدعي استخدام العنف لضبطهم وتم الاتفاق على عدم فتح النار إلا إذا كان خياراً أخيراً ووحيداً.
وناقشوا تفاصيل المطالب وطلب الطائرة لنقلهم والأسرى إلى بلد آخر وحدود التنازل عن المطالب وتم تعيين يوسف نزال مسؤولاً عسكرياً عن المجموعة أما محمد مصالحة فتم تعيينه مسؤولاً سياساً عنها بعد أن لمس أبو داود لديه ما يسميه نضجاً سياسياً .
وفي يوم 4 سبتمبر وصل الستة الآخرون ونزلوا في فنادق متفرقة وكان اتصالهم مع نزال ومصالحة فقط وتم توزيع الأسلحة التي جلبت من المحطة على الحقائب وكذلك المؤونة وغير ذلك.
تنفيذ عملية الاحتجاز والمفاوضات:
لدى وصول فريق الفدائيين إلى القرية الأولمبية كانت أبواب القرية مغلقة وعندها حدثت المفاجأة حيث وصل أفراد من البعثة الرياضية الأمريكية وهم ثملون وبدأوا في محاولة تسلق السياج واختلط الفدائيون بالأمريكيين وساعدوا بعضهم بعضاً على تسلق السياج بينما الجميع يضحك ويغني.
وفي الساعة الثامنة صباحاً أُعلن عن نجاح خمسة مسلحين بالتسلل إلى جناح بعثة الاحتلال وقتل واحد واحتجاز 13 آخرين وأحاطت الشرطة الألمانية بالمبنى وتمركز القناصة على أسطح المباني المجاورة وبدأت المفاوضات مع الفدائيين بحضور وزير الداخلية الألماني الذي عرض عليهم في البداية مبادلة رياضيي الاحتلال بعدد من المسؤولين الألمان ولكن رفض منفذو العملية هذا الطلب، وعرضت السلطات الألمانية مبلغ غير محدد من الأموال ولكن رفض هذا العرض أيضا.
طالب الفلسطينيون بتوفير طائرة تنقلهم مع الرهائن إلى القاهرة فأقلعت طائرتا هيلكوبتر محملتان بالفلسطينيين والرهائن إلى مطار فورشينفليد بروك العسكري التابع لحلف شمال الأطلسي والذي كان قد نصب الكمين فيه حيث احتل 12 قناصاً ألمانيا عددا من المواقع في المطار الذي كانت ساحته مضاءة بالأنوار الكاشفة وأطلقوا النار على الفدائيين الفلسطينيين فرد الفدائيون بإطلاق النار على القناصين كما أطلقوا النار على الأنوار الكاشفة فساد الظلام مسرح العملية وتواصلت الاشتباكات بين الفدائيين الفلسطينيين والقناصين الألمان لمدة 3 ساعات وانتهت عملية الإنقاذ الفاشلة بقيام القناصة الألمان في النهاية بقتل 11 رياضيا من الاحتلال و5 من الفدائيين الفلسطينيين الثمانية بالإضافة إلى ضابط شرطة ألماني وطيار مروحية ألماني وتم تفجير مروحية.
تكشف الوثائق السرية التي ظلت طي الكتمان حتى عام 2012م بعدما كشف الاحتلال عنها أن العملية أصابت قيادة الكيان الصهيوني بـ “الذهول والإحباط” وتبين الوثائق أن بعض وزراء الاحتلال، اقترحوا في الجلسة الطارئة يوم وقوع العملية أن يبادر الكيان بخطف سفراء عرب لمساومة الفدائيين. وتشير الوثائق إلى أن الاحتلال أصيب بالصدمة جراء قيام ألمانيا بإطلاق سراح الفدائيين الثلاثة الذين نجوا بعدما نجحت المقاومة في خطف طائرة ألمانية.
وتبقى العملية رسالة واضحة للمحتل على لسان كل مقاوم أنه:
- ربما تسلبني آخر شبر من ترابي
- ربما تطعم للسجن شبابي
- ربما تسطو على ميراث جدي
- ربما تحرق أشعاري وكتبي
- ربما تطعم لحمي للكلاب
- ربما تبقى على قريتنا كابوس رعب يا عدو الشمس لكن لن أساوم وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم.