السلطان المظلوم في التاريخ المعاصر عبد الحميد الثاني (1293-1327ه/ 1876-1909م)
عبد الحميد الثاني آخر خليفة للمسلمين
مولده وتعليمه:
ولد السلطان عبد الحميد يوم 16 شعبان عام 1258ه الموافق ل 1842م بقصر طوب قابي، اسطنبول، هو السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الخلافة العثمانية وآخر خليفة للمسلمين إلى يوما هذا.
توفيت والدته وهو في العاشرة من عمره، فاعتنت به الزوجة الثانية لأبيه وكانت عقيما، فأحسنت تربيته وحاولت أن تكون له أما، فبذلت له من حنانها كما أوصت بميراثها له، وقد تأثر السلطان عبد الحميد بهذه التربية وأعجبت بوقارها وتدينها، وكان لهذا الامر انعكاس على شخصيته طوال عمره.
تلقى السلطان عبد الحميد تعليما منتظما في القصر السلطاني على أيدي نخبة من مختارة من أشهر رجالات زمنه علماً وخلقاً، وقد تعلم من اللغات العربية والفارسية، ودرس التاريخ وأحب الأدب، وتعمق في التصوف، ونظم بعض الأشعار باللغة التركية العثمانية.
وتدرب على استخدام الأسلحة وكان يتقن استخدام السيف، وإصابة الهدف بالمسدس، ومحافظا على الرياضة البدنية، وكان مهتما بالسياسة العالمية ويتابع الأخبار عن موقع بلاده منها بعانية ودقة نادرة.
رحلته إلى أوربا مع عمه السلطان عبد العزيز:
زار الأمير عبد الحميد أوربا رفقة الوفد العثماني المرافق للسلطان عبد العزيز واستغرقت هذه الرحلة من 21 يونيو إلى 7 غشت من عام 1867م، زار فيها الوفد العثماني فرنسا وإنجلترا وبلجيكا وألمانيا والدولة النمساوية المجرية. استفاد الأمير عبد الحميد من هذه الرحلة الأوروبية، أمور كثيرة انعكست على فترة حكمه كلها بعد ذلك.
اقتنع الأمير عبد الحميد في هذه الرحلة: أن فرنسا دولة لهو، وإنجلترا دولة ثروة وزراعة وصناعة. أما ألمانا فهي دولة نظام وعسكر وإدارة وكان إعجابه بدولة ألمانيا كثيراً، لذلك عهد بتدريب الجيش العثماني إليها عندما أصبح سلطاناً.
لقد تأثر الأمير عبد الحميد بهذه الرحلة مما جعله يهتم بإدخال المخترعات الحديثة في دولته بمختلف مناحي الحياة بعد توليه السلطة، في مجال التعليم (أنشأ المدارس الحديثة وأدخل فيها العلوم العصرية) والصناعة (أدخل أول سيارة وأول دراجة) ووسائل الاتصال (أدخل التلغراف إلى بلاده من ماله الخاص) والجيش (أدخل الغواصات الحديثة).
تعلم عبد الحميد ذكاء الحوار السياسي وهو ما برع فيه خلال فترة حكمه، كان عمره أثناء هذه الرحلة 25 عاما.
بيعته للخلافة وإعلان الدستور:
بويع السلطان عبد الحميد بالخلافة بعد أخيه مراد لتاريخ طويل للدولة العثمانية تحت تأسيس المؤسس عثمان، يوم الخميس 11 شعبان 1293 ه الموافق ل 31 غشت 1876م، وكان عمره آنذاك أربعاً وثلاثين سنة، وحضر لمبايعته الوزراء والأعيان وكبار الموظفين من مدنيين وعسكريين في سراي طوبقيو.
عين السلطان عبد الحميد الصدر الأعظم مدحت باشا، ثم أعلن في 23 دجنبر 1876م الدستور الذي يضمن الحريات المدنية وينص على مبدأ الحكومة البرلمانية. وقد تعرض السلطان عبد الحميد في بداية حكمه إلى استبداد الوزراء واشتداد سياستهم التغريبية بقيادة جمعية العثمانيين الجدد، والتي كانت تضم النخبة المثقفة التي تأثرت بالثقافة الغربية والتي استطاعت الأيدي الماسونية أن تجندهم لخدمة أهدافها أي اسقاط الخلافة الإسلامية وهو ما حدث.
من الحجج التي قدمها السلطان عبد الحميد في رفضه للفكر الدستوري قوله: إن الدولة العثمانية دولة تجمع شعوباً شتى، والمشروطية في دولة كهذه يعني موت العنصر الأصلي في البلاد، وهل في البرلمان الإنجليزي نائب هندي واحد؟ وهل في البرلمان الفرنسي نائب جزائري؟.
كان السلطان عبد الحميد الثاني ضد الديمقراطية والحكم بالدستور الذي عرف في المصطلح العثماني باسم “المشروطية” أي الاشتراط على الحاكم بتحديد سلطانه. ولم يغير رأيه تجاه الحكم بالدستور في دولته حتى بعد أن عزل عن العرش.
لقد مر السلطان عبد الحميد الثاني في فترة حكمه بظروف عصيبة، وأزمات شديدة، وتآمر دولي على الخلافة العثمانية من الداخل والخارج، إلا أن ذلك لم يقف أمام هدفه فشرع في إصلاح الدولة وفق التعاليم الإسلامية لوقف التدخل الأوروبي في شؤون الدولة داخليا، وحرص على تطبيق الشريعة الإسلامية وقاوم كل الاتجاهات الغربية المخالفة للحضارة الإسلامية.
كما استطاع أن يشكل جهازاً استخباراتياً قوية لحماية الخلافة من الداخل وجمع المعلومات عن أعدائه في الخارج وكا أول من اهتم بفكرة إقامة الجامعة الإسلامية وحقق بها نتائج عظيمة، واهتز الأوروبيون من هذا التفكير الاستراتيجي العميق وعملوا على تفتيته.
لقد كان السلطان عبد الحميد الثاني مع تعليم المرأة ولذلك أنشأ داراً للمعلمات، لتخريج معلمات للبنات، كما كان ضد الاختلاط بين الرجال والنساء.
مؤامرات الدول الإمبريالية على حكم السلطان عبد الحميد الثاني:
لقد كان السلطان عبد الحميد الثاني على يقين أن هدف الدول الامبريالية الغربية هو اسقاط الدولة العثمانية بأي شكل من الأشكال وما قاله في مذكرته دليل ذلك: “رأيت أثناء مؤتمر الدول الكبر الذي عقد في استطنبول ما عزمت عليه هذه الدول، وهي ليست كما يقولون تأمين حقوق الرعايا المسحيين، بل تأمين الاستقلال الذاتي لهؤلاء الرعايا. ثم العمل على استقلالهم التام، وبذلك يتم تقسيم الدولة العثمانية”.
كان السلطان عبد الحميد داهية سياسية دوخ بها الدول الأوربية ودولة روسية لمدة 30 سنة بحنكته السياسية حيث سوف التوقيع على معاهدة سان ستفانو مع روسيا سنة 1295ه/1878م. وقام بجهود سياسية ودبلوماسية مكثفة، حتى أقنع بريطانيا للوقوب جانبه ضد روسيا القيصرية آنذاك، واستطاع عقد مؤتمر آخر (مؤتمر برلين) لتخفيف آثار سان ستفانو من ناحية، وإخافة روسيا بمنافستها الجديدة بريطانيا وقللت بنود هذا المؤتمر خسائر المعاهدة الأولى.
السلطان عبد الحميد الثاني وعبقرية الجامعة الإسلامية لتوحيد المسلمين:
أنشأ السلطان عبد الحميد الثاني الجامعة الإسلامية لتجميع المسلمين وتدعيم أواصر الأخوة الإسلامية بين كل مسلمي العالم في الصين والهند شمال وأواسط أفريقيا وغيرها، ولاقت الفكرة استحسانا وقبولا لدى المسلمين الذين اعتقدوا أن ضعف الدولة العثمانية مرجعه ضعف الشعور الديني عند المسلمين، الامر الذي دفع أعداء الإسلام الزحف على دار الإسلام ونهبها بلداً تلو الآخر.
كان السلطان عبد الحميد الثاني منذ أن تولى الحكم عاشقا للغة القرآن اللغة العربية وسعى إلى جعلها اللغة الرسمية للخلافة العثمانية الإسلامية، ولقي معارضة شديدة من قبل باشوات القصر وحتى بعض رجال الدين في هذه المسألة.
أنشأ السلطان عبد الحميد الثاني خط السكك الحديدية سنة 1900م تربط مدينة دمشق والمدينة المنورة وذلك تسهيل الوصول والربط بين جميع مناطق الشام والجزيرة العربية خدمة لحجاج بيت الله الحرام. وكان أول قطار وصل إلى محطة سكة الحديد في المدينة المنورة من دمشق الشام يوم 22 غشت 1908م، وكان بمثابة حلم تحقق لمئات الملايين من المسلمين في أنحاء العالم كافة.
إن حقيقة الصراع بين السلطان عبد الحميد الثاني واليهود من أهم الأحداث في تاريخ السلطان المسلم الغيور على مقدسته
بوادر إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني:
استطاع زعيم الحركة اليهودية الصهيونية العالمية (الصحفي تيودر هرتزل) أن يحصل على تأييد أوروبا للمسألة اليهودية من الدول(ألمانيا، بريطانيا وفرنسا) وجعل من هذه الدول قوة ضغط على الدولة العثمانية تمهيدا لمقابلة السلطان عبد الحميد الثاني وطلب فلسطين منه وجعلها وطنا قومي لليهود مستغلين المشاكل المالية التي كانت تعاني منها الدولة العثمانية لقبول العرض. إلا أن السلطان المسلم الغيور على دينه رفض العرض المغري الذي يتمثل في تسديد ديون الدولة العثمانية آنذاك وقال قولته الشهير لهرتزل عن طريق صديقه تيولنسكي يقول فيها رحمه الله : انصح صديقك هرتزل أن لا يتخذ خطوات جديد حول هذا الموضوع، لأني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة، لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي، وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض، ورووها بدمائهم، فليحفظ اليهود بملايينهم.إذا مزقت دولتي من الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل، ولكن لم أن يبدأ التمزيق أولاً في جثتنا، ولكن لا أوافق على تشريح جثتي وأنا على قيد الحياة.
“منع السلطان عبد الحميد الثاني إنشاء دولة يهودية في فلسطين كلفه غاليا واودى بعرشه، وأدى هذا الامر فيما بعد بانهيار الدولة العثمانية كلها”.
السلطان عبد الحميد الثاني والماسونية العالمية:
واستطاعت جمعية الاتحاد والترقي أن تعزل السلطان عبد الحميد الثاني من منصبه سنة 1909م، بدعم من الدول الأوروبية الصهيونية العالمية للوصول إلى هدف إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين. بموجب فتوى من شيخ الاسلام محمد ضياء الدين أفندي وتنصيب اخيه محمد رشاد باسم السلطان محمد الخامس 1909- 1918. والجدير بالذكر ان الذي بلغه القرار النائب اليهودي عمانوئيل قره صو
وبعد ذلك نفي عبد الحميد الثاني إلى سالونيك، مقر الماسونية العثمانية، إمعانا في إذلاله. ثم بعد ثلاث سنوات نُقل إلى قصر بكلربكي في إسطنبول إثر اندلاع حرب البلقان الأولى، وبقي قرابة خمس سنوات شاهدا على اكتمال مخطط القضاء على الخلافة.
توفي السلطان المظلوم من قبل شعبه عبد الحميد الثاني رحمه الله، داهية زمانه بعد تكالب عليه أعداء الداخل والخرج في 28 ربيع ال’خر 1336ه الموافق ل 10 فبراير 1918م بقصر بايلر باي بمدينة اسطنبول عن عمر ناهز 75 سنة، وقبل 9 أشهر من انتهاء المواجهة العسكرية العالمية الأولى بانتصار حلفاء أمريكا، بريطانيا وفرنسا، وبذلك انتهى عهد الخلافة الإسلامية وحقبة مشرقة من تاريخ الإسلام وتشتت المسلمين شرقا وغربا في مائدة اللئام تتدعى عليها الأمم الكافرة.
ورثاه كثير من الشعراء، بمن فيهم أكبر معارضيه: “رضا توفيق” الذي كتب يقول:
عندما يذكر التاريخ اسمك
يكون الحق في جانبك ومعك أيها السلطان العظيم
كنا نحن الذين افترينا دون حياء
على أعظم سياسي العصر
قلنا: إن السلطان ظالم، وإن السلطان مجنون
قلنا لا بد من الثورة على السلطان
وصدقنا كل ما قاله لنا الشيطان.
المراجع الرئيسية:
ترجمة محمد حرب، “مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني” ,(1419هـ , 1998م) , – دار القلم ,دمشق , الطبعة الرابعة .
يلماز أوتونا , (1410هـ , 1990م) , تاريخ الدولة العثمانية، منشورات مؤسسة فيصل للتمويل , تركيا , الطبعة الأولى .
علي محمد الصلابي (1426هـ , 2005م) “”الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط” مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى.
كتاب: “الدولة العثمانية”، د. إسماعيل ياغي.