فاز بالانتخابات ل 15 مرة متتالية، أنهض البلاد وتجاوز كل ما مر به من عثرات.. ما قصة صمود حزب العدالة والتنمية التركي في السلطة؟ وهل سينجح في فعلها من جديد؟
أن ينجح حزب سياسي في انتخابات مرة واحدة أو اثنين فذلك ليس غريبا لكن أن يفوز حزب واحد في 15 سباق انتخابي بشكل متتال دون أن يخسر أي جولة فذلك محل اندهاش واستغراب.
كيف استطاع حزب وليد لم يتجاوز عمره العام أن يكتسح الانتخابات ويشكل حكومة لوحده؟
وكيف حافظ على شعبيته لعقدين متتاليين في دولة عرفت بكثرة الانقلابات العسكرية والاضطرابات السياسية؟؟
1. لحظة ولادة حزب العدالة والتنمية التركي:
“لا شيء يبدأ من العدم في السياسة فلكل حدث مقدماته ينطبق ذلك على كل شيء بما في ذلك نشأة الأحزاب السياسية”.
تأسس حزب العدالة والتنمية في أغسطس سنة 2001، من طرف نواب كانوا يمثلون جناح المجددين في حزب الفضيلة الإسلامي الذي حل بقرار صدر من المحكمة الدستورية في 22 من يونيو 2001 واتخذ من المصباح المضيء رمزاً له في إشارة إلى الشفافية في الإدارة، في حين يرمز لونه الأصفر إلى الحيوية، المعرفة، الحكمة والقوة.
لكن لحظة الولادة هذه سبقتها الكثير من الأحداث ولفهم ما جرى نعود إلى ما سبق ذلك إلى الأيام التي أعقبت ولادة الجمهورية التركية مباشرة بعد المواجهة العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية وحكم الحزب الواحد ثم فترة التدخلات العسكرية والتفتت السياسي إبان تلك الفترة كان النظام السياسي التركي محكوم بالانقلابات والمصالح الحزبية حينها كانت الأحزاب السياسية المنشقة عن حزب السلطة تتصدر نتائج الانتخابات ومال الشعب في كل مرة لاختيار من يقف ضد حزب الشعب الجمهوري الحاكم على سبيل المثال الحزب الديمقراطي الذي تأسس على يد عدد من المنشقين عن حزب الشعب الجمهوري فاز بثلاث مرات متتالية في الانتخابات أمام غريمه ثم أبعده الانقلاب العسكري الذي جرى في ماي 1960م، تلاه حزب العدالة الذي فاز مرتين متتاليتين وأزيح مجدد بانقلاب عسكري أخر 1971م ما خلق حالة من عدم الاستقرار السياسي الشديد، ففي السبعينيات تشكلت 11 حكومة، وفي عام 1980م حصل انقلاب منع البلاد من أية حريات سياسية بما فيها العمليات الانتخابية. وظلت تركيا على هذا الحال حتى انتخابات 1987م وما تلاها من اضطرابات سياسية إذ كانت الحكومة تتغير كل عام تقريباً ولم تستطع أي من الأحزاب الفائزة عبر صناديق الاقتراع تشكيل حكومة لوحدها دون ائتلافات. كما جرى التضييق على السياسيين الذين ترى فيهم الدولة العميقة بأنهم خطر عليها، فحرم سياسيون من العمل السياسي وأودع أخرون في السجن بما فيهم “رجب طيب أردوغان” العضو القيادي البارز في حزب الرفاه ذو الخطاب الإسلامي الذي كان يقوده نجم الدين أربكان والذي استطاع خطف الأضواء لإنجازاته الخدماتية هذا التضييق والحرمان السياسي ولد حالة من عدم الإيمان بالنظام الديمقراطي الهش الذي خرج لتوه من عهود الهيمنة العسكرية والسلطوية. في ظل تلك الظروف نشأ حزب العدالة والتنمية.
2. حزب بأجندات ميدانية لا تنظيرية:
بعد خروجه من السجن وبرفقة آخرين منشقين عن حزب الرفاه أسس أردوغان حزب العدالة والتنمية بوصفه حزباً ديمقراطياً محافظاً يقوم على أجندات أساسها الإصلاح السياسي الديمقراطي، وتزامن تأسيس الحزب وتوترات سياسية واقتصادية ضاق الشعب التركي بها ذرعا وفي فترة تلت انقلابا أبيض على الزعيم نجم الدين أربكان عام 1997، فأكد “أردوغان في أول خطاب له بعد توليه الزعامة أن ميلاد حزبه سيكون بداية لإرساء مفهوم العقل التشاوري يمكن للمواطنين من خلاله محاسبة المسؤولين بشفافية وموضوعية “لاشيء بعد الآن في تركيا سيكون كما كان في السابق”. هذه المقولة هي المشروع السياسي لحزب العدالة والتنمية في تركيا.
وبذلك أعلن أردوغان سياسة داخلية تتصالح مع الجميع فبدأ بالأكراد متيحاً لهم مجالاً ثقافياً كان محظراً عليهم، ودعم مشاركتهم في المجال السياسي، كما اتجه نحو أكثر القضايا حساسية المتعلقة بالدين والعلمانية فسمح تدريجيا بالحجاب في مؤسسات الدولة بما فيها الجيش ورفع مكانة الرموز الدينية ودورها في المجال العام مما عزز من دور شريحة المحافظين في المجتمع.
بدأت تجربة الحزب الانتخابية في نونبر عام 2002، فأظهر تفوقا على جميع التيارات السياسية الموجودة في الساحة آنذاك بعد أن فاز ب 34% من الأصوات وحصد 363 مقعداً في البرلمان لتتوالى بعدها انتصارات انتخابية نحو عقدين من الزمن. مثلت الانتخابات المحلية في عام 2004 اختبارا مهما للحزب إذ كانت أول انتخابات تجرى بعد توليه السلطة فأحرز المركز الأول ب 42% من أصوات الناخبين وأعاد تأكيد نجاحه في الانتخابات التشريعية لسنة 2007، وهو العام نفسه الذي فاز فيه عبد الله غل مرشح الحزب بالرئاسة خلفاً لسلفه أحمد نجدت سيزار بعد أن حصل على أصوات 339 نائباً من إجمالي أصوات 550 نائبا في البرلمان.
وفي سنة 2010 احتفل الحزب بفوزه في الاستفتاء في التعديلات الدستورية وأحرز فوزا كبيرا في الانتخابات التشريعية عام 2011. كما حقق أردوغان فوزا كبيرا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أغسطس 2014 بحصوله على أكثر من 50% من الأصوات وهي المرة الأولى التي يتم اختيار الرئيس بشكل مباشرة. إلا أن الانتخابات التشريعية لسنة 2015 فقد فيها حزب العدال والتنمية الأغلبية المطلقة بالرغم من فوزه بالانتخابات، وكذلك فاز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2018.
3. إنجازات ميدانية مذهلة:
- عمل على تقوية الاقتصاد التركي ودوره التجاري في المنطقة وانتعشت قيمة الليرة وبات التقدم الاقتصادي واحداً أهم إنجازات الحزب؛
- نجح الحزب في بناء بنية تحتية هائلة من جسور وأنفاق ومطارات وشبكة كبيرة من النقل العام؛
- ضمن حزمة من الوعود التي أطلقها وحققها خلال سنوات متتالية؛ تطوير مطار إسطنبول الدولي ذو المساحة الكبيرة والتكنولوجية المتفوقة؛
- أعاد فتح جامع آيا صوفيا للمصلين وباتت إسطنبول في عهد العدالة والتنمية جوهرة لامعة بعد أن كانت في عهود سابقة تغص بمشاكل النظافة وقلة المياه وانتشار الفوضى والعشوائيات لكن كل هذه الإنجازات الفريدة لم تكن تحدث لولا تضحية أعضاء الحزب وصدقهم وتفانيهم في خدمة شعبهم وبلدهم.
4. الصندوق في مواجهة التحديات السياسية:
يمكن اعتبار أن أهم ما قدمه الحزب في مشواره هو تعزيز دور صندوق الاقتراع والانتخابات في أي تغيير أو مواجهة سياسية فبدلاً من أن يكون العسكر والدولة العميقة هم من يرسمون طريقة الحكم ويحددون الأجندات السياسية وضع حزب العدالة والتنمية الانتخابات كأساس لأي تغيير سياسي، فبينما اعتاد حزب الشعب الجمهوري الوصول إلى السلطة عبر طرق غير ديمقراطية باللجوء إلى هيئة الأركان العسكرية والمحكمة الدستورية إلا أن حزب العدالة والتنمية قام بنهج مختلف وجعل صندوق الاقتراع اللاعب الوحيد في الميدان السياسي وبات أي تغيير مشروط بالفوز بالانتخابات مؤسساً بذلك منهجاً ديمقراطياً لم يكن الوصول إليه بالشيء اليسير إذ مر الحزب بمطبات خارجية كادت أن تطيح به وبقيادته للأبد.
5. مواجهات دامية تعرض لها الحزب:
مر العقد الأول من حكم العدالة والتنمية للبلاد بشكل هادئ لكن العقد الثاني لم يكن كذلك فمع تفجر الأوضاع السياسية بالمنطقة بما فيها سوريا سنة 2011 واجه الحزب احتجاجات “غيزي بارك” التي هددت استقرار الحكومة ثم حادثة “شاحنة الاستخبارات التركية” التي كادت أن تطيح بالقيادات الأمنية للبلاد ووصولاً لمحاولة انقلاب 15 تموز الفاشلة كل ذلك كان كفيلاً بأن يأخذ الحزب منعطفاً جديداً تمثل بشن إصلاحات عسكرية واسعة شملت أكثر المناصب حساسية إذ حصر دور الجيش في مهامه الدفاعية التقليدية واهتم في بناء صناعات عسكرية محلية توجت بالطائرات المسيرة التي حكمت أجواء الحروب في الكثير من المناطق.
6. الصمود النادر … هل يستمر؟
بعد 20 عام من الحكم بالسياسة والديمقراطية ومراكمة خبرات متنوعة في إدارة البلاد يترقب الحزب انتخابات برلمانية ورئاسية حاسمة لسن 2023، انتخابات توصف بأنها “تاريخية” ولكنها في نفس الوقت من أكثر الانتخابات حساسية في البلاد بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة والاستياء الشعبي من قضية اللاجئين.
فهل يتمكن الحزب من إدارة هذه الأزمات ويحقق انتصاراً آخر في الانتخابات الرئاسية 2023 كما فعل على مدار العقدين الماضيين؟
تعليق واحد