تشكل الديمقراطية، بوصفها بناءً نظرياً ونظاماً اجتماعياً، أهم إبداعات العقل السياسي الذي يتوخى تنظيم الأفراد داخل سياقات اجتماعية مختلفة رغم تعدد وتنوع منطلقاتهم وتوجهاتهم، كما ينشد العمل على تدبير اختلافهم من أجل بلوغ الغايات السامية للدولة، المتمثلة أساساً في تحقيق العدالة وتحصيل الرفاهية للمواطنين.
لكن هذه الديمقراطية لا تسلم بدورها من مكر العقل الذي ابتكر الإيديولوجيا والوهم والعنف، أو من اليوطوبيا التي غالبا ما تنتج تصورات مبالغا فيها تضفي القداسة على الديمقراطية نفسها.
الديمقراطية démocratie (بين التاريخ والتصنيفات)
تعرف معظم القواميس اللغوية والكتب القانونية والسياسية والفلسفية أن الديمقراطية هي “حكم الشعب”. ربما كان الأمر مقبولا لغويا، على اعتبار أن الديمقراطية لفظة مشتقة من الأصل اليوناني الذي يجعلها مركبة من كلمتين؛ (demos) وتعني “عامة الناس”، و (kratia) أي “الحكم” ومن يكون معنى الكلمة حكم عامة الناس، أي حكم الشعب. لكن على المستوى السياسي والفلسفي، فإن المفهوم يحتاج إلى توضيح، رفعا لأي لبس أو مغالطات فكرية ذات آثار سياسية.
الديمقراطية بين التاريخ الواقعي والنظري
التاريخ الواقعي La véritable histoire de la démocratie
تؤكد العديد من كتب تاريخ الفكر السياسي، على ان الأصل التاريخي للديمقراطية هو مدينة أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. والمؤشر الأول الذي يدل على هذا القول هو ان كلمة “ديمقراطية” لفظة إغريقية تعني حكم عامة الناس أو الشعب (1). فانطلقت الديمقراطية، بوصفها نظاماً سياسيا للحكم، من “الديمقراطية المباشرة” في أثينا حيث يشارك المواطنين في اتخاذ القرارات التي تهم الشأن العمومي للمدينة بشكل مباشر دون وساطة، إلى “الديمقراطية التمثيلية” وهي الشكل المتطور للديمقراطية المباشرة.
ومع تطور الديمقراطية اقتضى الأمر ابتكار نموذج جديد لها اصطلح عليه بالديمقراطية التمثيلية، حيث يستلزم انتخاب نواب من طرف المواطنين عبر الاقتراع العام، نواب يتولون تمثيل هؤلاء المواطنين في المؤسسات السياسية. وظهر هذا الشكل بالدول الأوروبية منذ القرن الثمن عشر، عقب انتشار الأفكار الداعمة لقيم حقوق الإنسان التي نشأت مع فلاسفة التنوير (هوبز HOBBES ولوك LOCKE وروسو ROUSSEAU وكانط KANT…).
الديمقراطية عند جان جاك شوفالييه وبريكلس
اعتبر جان جاك شوفالييه (Jean-Jacques CHEVALIER) في كتابه “تاريخ الفكر السياسي” أن الديمقراطية في أثينا تحققت بفضل مناخ الحريات الذي كانت تنعم به هذه المدينة، بحيث لا يمكن للديمقراطية أن تستند على قاعدة التقاليد الموروثة وغير المبررة، وإنما ترتكز على الفكر الحر والمناقشات السياسية الحرة (2). لهذا اعتبرت أثينا ليست فقط مهد النظام الديمقراطي، بل أيضا منبع أول فكر سياسي جدير بأن يحمل اسم “السياسة” . ذلك أن كلمة “سياسة” (politique) مشتقة من الكلمة اليونانية (polis) التي تعني المدينة.
يعتبر بريكلس أهم حكام أثينا الذين طبقوا النظام الديمقراطي فيها، حيث اعتبر الديمقراطية نظاما يعمل لفائدة الأكثرية من المواطنين، ويرتكز على المساواة والحرية، مساواة الجميع أمام القانون، ومساواتهم أيضا في المشاركة في تسيير الشؤون العامة للمدينة. أما الحرية فتتجلى في غياب الإكراه، وهي بالتالي مجردة القدرة على الفعل، بل إن ممارسة الحرية السياسية أمر إلزامي. فالشخص الذي لا يهتم بشؤون المدينة شخص غير نافع.
يمكن حصر الديمقراطية الأثينية، كما تناولها بريكلس، في ثلاثة مبادئ أساسية وهي: مبدأ المساواة أمام القانون، ومبدأ المشاركة في الشؤون العامة، وأخيرا مبدأ الحرية.
الديمقراطية التمثيلية أو الحكم السياسي
ظهرت الديمقراطية التمثيلية نتيجة اختيار المواطنين من ينوب عنهم ويمثلونهم في المؤسسات السياسية، وهو ما أفرز في تاريخ الديمقراطية، هذا النمط الجديد، وما مكن هذا النظام السياسي في الغرب المعاصر وضمن له النجاح، هو سقوط أنظمة استبدادية بعد المواجهة العسكرية العالمية الثانية، كالفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا، ونظام فرانكو في إسبانيا، وغير ذلك. وبعدما كان معظم المهتمين بالمجال السياسي يتحدثون بعبارات تشاؤمية عن خريف الديمقراطية او ربما نهايتها في ثلاثينات القرن 20م.
لكن بعد انهيار تلك الديكتاتوريات وانتهاء المواجهة الباردة عادت الديمقراطية أكثر قوة، عبر حركات حقوق الإنسان، تطرح قضايا من قبيل: سيادة القانون، الفصل بين السلط، التداول على السلطة، الشفافية، الحقوق والحريات، ربط المسؤولية بالمحاسبة… فهذا النجاح غير المسبوق للديمقراطية في الغرب(أوروبا)، جعل المتتبعين يأخذون تنبؤات فرانسيس فوكوياما (Francis FUKUYAMA)، حول حتمية انتصار الليبرالية وما تحمله معها من قيم ديمقراطية، محمل الجد (3).
لم يكن تاريخ الديمقراطية أبداً خطيا يسير في اتجاه تطوري أحادي الاتجاه من أثينا إلى أوروبا الغربية، اتجاه نحو الأفضل (من الأدنى إلى الأعلى)، إن تصورات مماثلة، هي نتاج لمواقف تاريخانية تطورية تبسيطية واختزالية، غالبا ما يسقط فيها التاريخانيون عند عرض أفكارهم التاريخية حول الديمقراطية وجعلها ملازمة لأوروبا دون المناطق الأخرى.
الديمقراطية ليست أفكارا أو ممارسات سياسية متراكمة خطية تسير في اتجاه متواصل لا نهائي حتمي وتطوري، وفق سيرورات تطورية محددة وضرورية، بل إن تاريخ الديمقراطية هو أيضا تاريخ انعطافات وانقطاعات وتكرارات ومسارات مختلفة تبعاً للخصوصيات الاجتماعية والثقافية. رغم هذه الانتصارات التي حققتها الديمقراطية إلا انها عرفت إخفاقات في تدبير العديد من القضايا السياسية الراهنة، حيث أن القرن الواحد والعشرين، شكل تراجعا فعليا للديمقراطية في العديد من بقاع العالم. خاصة بعد أحداث 11 شتنبر 2001م، وما تلاها من المواجهات العسكرية في أفغانستان والعراق، مما أساء لصورة الأنظمة الديمقراطية الغربية (4).
التاريخ النظري Histoire théorique de la démocratie
يعتبر أفلاطون، في كتابه “الجمهورية” اول فيلسوف برع في ترتيب الحكومات نظريا. حيث أشار إلى أربعة أنواع من الحكومات وصفها كالأتي: الحكومة التيموقراطية (Timocratie)، وهي حكومة الشرف والمجد (timé)، تسمى أيضا بالحكومة الأرستقراطية، والحكومة الأوليغارشية (Oligarchie)، حكومة الثروة أي حكومة الاغنياء، وأيضاً الحكومة الديمقراطية (Démocratie)، هذه الحكومات اعتبرها أفلاطون خليطا من الدساتير والقوانين، مما جعلها، على حد قوله، حافلة بالفوضى ومظاهر التنوع، وأخيراً حكومة الطغيان (Tyrannie)، حيث ينشأ الطغيان في الأصل، حسب الفيلسوف … (5).
تناول أفلاطون التاريخ النظري للحكومات الأربعة، معتبرا أن الأصل التاريخي لهذه الحكومات يتمثل في التيموقراطية، ذلك أن الانتقال من هذه الحكومة الأخيرة إلى الأوليغارشية جاء نتيجة تكديس الذهب والثروة والخروج عن القانون وعدم تقدير الفضيلة…. اما الانتقال من الاوليغارشية إلى الديمقراطية فقد تم ذلك من خلال صراع دولتين؛ دولة الأغنياء وأخرى للفقراء، كل واحد تتآمر على الأخرى بلا انقطاع. فازداد التباعد بين الفقراء والأغنياء، وكان الانتصار حليف الفقراء لكثرة عددهم.
إذ يقتسم الفقراء أمور الحكومة والرئاسة فيما بينهم بالتساوي، ويسنون قوانين تجعل الحكام في هذا النوع من الدول غالبا ما يختارون بالقرعة. فتسود الحرية الجميع في أن يفعلوا ما يشاؤون. هذه الحرية تتحول إلى حرية متطرفة، وفوضى وعدم احترام القوانين، والثورة والتمرد إزاء كل ضغط، والمساواة بين غير المتساوين (الأطفال، النساء، العبيد…). في هذه الأجواء تنشأ الحكومة الاستبدادية بطريقة طبيعية من الحكومة الديمقراطية، أي من الحرية المتطرفة تولد أكمل وأفظع أنواع الطغيان.
يرى أفلاطون أن الديمقراطية من الناحية النظرية، تنشأ في ظل الحكم الاوليغارشي، عندما تفاقم حدة التمايزات الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء، فينتصر الفقراء بحكم قوتهم العددية، لينشئوا نظاما ديمقراطيا يمنح الحرية للجميع بما فيهم الأطفال والنساء والعبيد، فتتحول هذه الحرية إلى فوضى. لكن الحكم يظل في قبضة فئة قليلة نشيطة تتولى الخطابة وإدارة الأعمال، اما الباقون فمتفرجون فقط.
من هنا فإن الحكومة الديمقراطية، من الناحية النظرية، توسط بين حكومتي الأوليغارشية والاستبداد. تبدأ بمواجهة طبقة الأغنياء مدعمة بطبقة الشعب، لكن سرعان ما تتحول إلى طبقة مستبدة عندما يستثب لها الامر. لهذا جاء التحذير صريحاً من قبل أبرز فلاسفة اليونان خاصة سقراط وأفلاطون وأرسطو…
المصادر الرئيسية
(1)- كلمة ديمقراطية (Démocratiè في اللغة الإغريقية (demokratia) تشير إلى أن الحكم يمارس من قبل الشعب. ويقول الرئيس الأمريكي السابق، في عبارة شهيرة: “الديمقراطية هي حكم الشعب من طرف الشعب ومن أجل الشعب”.
(2)- جان جاك شوفالييه، تاريخ الفكر السياسي، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان 1985، ص 16.
(3)- FUKUYAMA Francis, La fin de l’histoire et le dernier homme, Trad. Canal Denis-Armand, Flammarion, Paris, 1992.
(4)- HOLEINDRE, J.V et autres, « La Démocratie histoire théories pratique, op. cit, pp. 6-8.
(5)- أفلاطون “الجمهورية” ترجمة فؤاد زكرياء، دار الوفاء، الإسكندرية، 2004، الصفحات من 438 إلى 473.