بايوغرافي

قراءة في رواية اللص والكلاب: أبعاد الرواية

تحليل الأبعاد في الرواية:

1- البعد الاجتماعي:

أي دراسة الوقائع الاجتماعية والتاريخية في النص السردي، ذلك أن كل نص هو جزء من الحياة الاجتماعية والثقافية، وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالمجال الاجتماعي التاريخي. ويمكن دراسة هذا المنظور من خلال مستويين: المظاهر الاجتماعية والدلالة الاجتماعية.

أ- المظاهر الاجتماعية:

تتكشف العلاقة بين رواية اللص والكلاب والمجتمع من خلال تصويرها واقعا اجتماعيا متناقضا أفرزته التحولات السياسية في خمسينيات القرن 20 تختصره فئتان، فئة الأغنياء التي يمثلها رؤوف علوان والتي تمتلك كل شيء، وفئة الفقراء التي يمثلها سعيد مهران والتي تفتقر لأبسط متطلبات العيش الكريم، وهو تناقض اجتماعي سيؤدي إلى ظهور أمراض اجتماعية خطيرة، كالسرقة التي اعتبرها سعيد مهران وسيلة لإعادة حق الفقراء والمتاجرة في المخدرات والتي يمارسها المعلم طرزان، ناهيك عن الدعارة التي تمارسها نور.

ونجيب محفوظ لا يحمل مثل هذه الشخصيات مسؤولية المسار الذي اتخذته، بل هو يدين الجهات المسؤولة في الدولة الثورية الحديثة التي استقالت من دورها الاجتماعي والإنساني وانسحبت إلى الوراء تاركة الفقراء يواجهون مصيرهم الأسود.

وتتعمق هذه التداعيات بممارسات أخرى مثل الخيانة والانتهازية والنفاق، وقد ذهب ضحيتها سعید مهران الذي خرج من السجن ليجد أن زوجه قد تزوجت من صبيه واستولت على ماله وحرمته من ابنته التي لم تتعرف عليه وأنكرته، وأن صديقه ومعلمه رؤوف علوان قد تنكر للمبادئ التي علمها له وأصبح صحفيا انتهازيا ونجما في سماء المجتمع الراقي، متخليا عن مبادئه السابقة ونضالاته السالفة.

ب- الدلالة الاجتماعية:

لقد اهتم نجيب محفوظ في عمله هذا بتقريب الرواية من الحياة الفردية، وتصوير ما تواجهه في واقعها الاجتماعي من أصناف الانكسار والإحباط، نتيجة الفقر والحرمان و غياب الوعي المحفز على التغيير، في ظل انحياز الدولة للأغنياء واللصوص وتنكرها للفقراء والمحرومين مما حدا بالرواية إلى أن تتضامن مع هؤلاء المتنكّر لهم، ممثلين في سعيد ونور وطرزان ومن على شاكلتهم، وأن تعلي من شأن أخلاقهم وقيمهم المتمثلة في الحب و التضامن والقدرة على التضحية و العطاء، فعند تركيز الرواية، مثلا على دواخل شخصية سعيد مهران و إضاءتها المجال الذي تتحرك ضمنه فإنها تعكس طبيعة الرؤية المعبر عنها في هذه الرواية:

رؤية تنحاز إلى تعرية وانتقاد الفساد الاجتماعي والسياسي المهيمن على المجتمع المصري، خاصة من خلال ملفوظات سعید ونور، التي تكشف حدة في النقد ومرارة في السخرية من واقع تخشبت فيه القيم وغيضت العواطف، وغدا الإنسان فيه أسير الوحدة والاغتراب والضياع.

هكذا يبدو واضحا أن رواية اللص والكلاب رواية نقدية تنتقد وبشدة الواقع الاجتماعي الذي أفرزته الثورة والذي عمق من معاناة الطبقة الفقيرة وزاد من همومها إلى درجة أن أسرا كثيرة قد تفككت علاقاتها نتيجة الفقر والحاجة، واضطرت إلى بيع شرفها ومبادئها أو النضال من أجل تحققها إلى آخر أنفاس الحياة.

2- البعد النفسي:

يسعى إلى معالجة الجانب العاطفي في النص السردي، بكل مكوناته مشاعر وأحاسيس وخصائص سيكولوجية، ومعطيات فكرية أخلاقية وفلسفية وهذه المعطيات تكون حاضرة في كل نص سردي بكيفية صريحة أو ضمنية. ويتم الكشف عن البعد النفسي وفق الخطوات التالية: الحقل العاطفي / العلاقات والتيمات السيكولوجية / الدلالات والأبعاد النفسية للنص. وفي رواية ” اللص والكلاب” نكتشف مشاعر وأحاسيس وعواطف متوترة، تشف عن أزمة الإنسان الذي تتحدث عنه، وقدره في عالم غريب لا يأنس له، ولا يشعر بالاطمئنان فيه. لذلك اختار نجيب محفوظ تقنية ” رواية الشخصية الواحدة” التي تستكنه الحياة النفسية الداخلية، وتبرز من خلالها ما يتهدد الانسان نتيجة الفساد الاجتماعي والسياسي، من أنواع الغربة، والمعاناة والشك.

3- الحقل العاطفي:

يبدو سعيد مهران في الرواية إنسانا غير متوازن ولا متزن مفعم بالتوتر في علاقاته سواء إزاء من خانوه: نبوية عليش، رؤوف … أو من أحبوه نور، طرزان.. أو إزاء الواقع. و يعاني سعيد مهران من تمزق نفسي و صراع داخلي نتيجة الخيانة الثلاثية الأطراف: نبوية و عليش و رؤوف مما حدا بالكاتب إلى اعتماد تقنية الاسترجاع ليقربنا من نفسيته، فهو يركز على طفولته و مراهقته و شبابه و علاقته بأسرته وأصدقائه، و كذا بالشيخ علي الجنيدي، صديق والده، مما يساعد في فهم أعمق الأزمة سعيد مهران، التي هي إفراز لهذه التحولات الاجتماعية الطارئة و غير السليمة، مما جعله يشعر بالغربة و التوتر، و لا يتلاءم مع الواقع الذي يعيش فيه، لأنه تحت سيطرة الانتهازيين و الخونة الذين يجب استئصالهم حتى تستمر الحياة طبيعية، ينعم فيها الإنسان بالرخاء.

العلاقات العاطفية:

علاقة الحب: تجمع بين سعيد مهران وكل من: * نبوية وعليش ورؤوف في مرحلة ما قبل اكتشاف خيانتهم. * نور التي أحبته ثم آوته بعد خروجه من السجن وخيانة زوجه له * سناء ابنته التي لم تتعرف عليه بعد خروجه من السجن. * طرزان الذي أهداه مسدسا لينتقم به من أعدائه، ومده بأخبارهم.

علاقة الكراهية والاحتقار: تجمع بين سعيد وكل من نبوية وعليش ورؤوف في مرحلة ما بعد اكتشاف خيانتهم، حيث غدا سعيد يكرههم جميعا لأنهم خانوه كل بطريقته ويسعى للانتقام منهم استردادا لمعنى الحياة البسيطة التي يحلم بها.

علاقة الاحترام: تجمع بين سعيد مهران وعلي الجنيدي الشيخ المتصوف، صديق والده، رغم اختلاف مذهب كل منهما في الحياة، وكونهما لا يلتقيان في طبيعة رؤية كل منهما لها.

علاقة التواصل: تجمع بين سعيد والقيم التي آمن بها وعمل لأجلها، والفضاءات التي ارتبط بها بوشائج قوية مثل مقهى ” طرزان ” التي شكلت أحد فضاءاته المحببة قبل المطاردة وأحد متنفساته وملاذاته في فترة المطاردة.

4- التيمات السيكولوجية:

تكشف رواية ” اللص والكلاب ” عن مجموعة من التيمات السيكولوجية، نذكر منها:

  • تيمة الحب:

” سأجد عملا أوفر ربحا، وأنا أحبك، لا تنسيني أبدا، أنا أحبك وسأحبك دائما… “ص91، وهي من التيمات المركزية التي تؤدي إلى تحريك الأحداث في الرواية، فالحب الذي كان يحمله سعيد مهران كان يسعُ الجميع، كان يسع نبوية وسناء وعليش ورؤوف و الفئات الفقيرة التي سرق من أجل أن تحظى بعدالة اجتماعية تتقاسم من خلالها خيرات الوطن مع الأغنياء و لشدة هذا الحب ستكون الخيبة مدمرة و قاسية على سعيد مهران و ستنجم عنها وضعيات مأساوية تتمظهر في تيمات.

  • تيمة الخيانة:

” أن… للخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة” (ص 7) ” تلك المرأة النابتة في طينة نتنة اسمها الخيانة” (ص8). ” أ نسيت يا عليش كيف كنت تتمسح في ساقي كالكلب؟” (ص8) هذا هو رؤوف علوان الحقيقة العارية جثة عفنة لا يواريها تراب. أما الآخر فقد مضى كأمس أو كأول يوم في التاريخ أو كحب نبوية، أو كولاء عليش.” (ص37)، ” خيانة لئيمة لو اندك المقطم عليها دكَاً ما شفيت نفسي. ” (ص37).

هذه مقاطع من الرواية تبرز محورية تيمة الخيانة فيها والتي كان أثرها مدمرا في نفسية وحياة سعید مهران فلم يقبل بهذه الخيانة، وسعى إلى استرداد شرفه الضائع، ليسترد معنى الحياة، لكن كان لزاما عليه أن يخوض صراعا ضد الخونة، أن يقتلهم ليخلص البشرية منهم، وهو في سعيه هذا يرى في نفسه رمزا للكثير من البسطاء الذين عانوا الخيانة مثله لكنهم عاجزون عن التحدي والمقاومة.

  • تيمة الظلم:

” مرة أخرى يتنفس الحرية، ولكن الجو غُبارٌ خانق وحرّ لا يطاق…. ولا شفة تفتر عن ابتسامة.. وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدراً.” (ص7). بهذا تفتتح الرواية فنكتشف أن سعيد مهران يعاني مرارة الظلم، وسبب الظلم ما سبقت الإشارة إليه. لكن سعيد مهران ليس هو الوحيد الذي يعاني الظلم فهناك نورأيضا التي تحمل قلبا كبيرا يسع طريدا مثل سعيد مهران لكنها تعيش حياة الليل والاحتقار والذل، دون أن تجد ما أو من يوفيها بعضا من كرامة مهدورة.

  • تيمة الاغتراب:

وهو واحد.. «(ص 7، “لا تؤاخذني لا مكان لي في الدنيا إلا بيتك” (ص19 يعاني سعيد مرارة الاغتراب وسط مجتمعه، فهو يشعر بأنه وحيد في هذا العالم، خاصة مع تعرضه لخيانة أقرب الناس إليه: امرأته وصديقه ومعلمه وتقاسمه نور هذا الشعور بالاغتراب إذ تحس أنها ضائعة بلا قيمة في هذا العالم.

5- الدلالات والأبعاد النسية للنص:

اعتمادا على العناصر النفسية المتعددة السابقة يمكننا أن نستجلي الدلالات والأبعاد النفسية التالية للنص:

سعى نجيب محفوظ، من خلال تركيزه على شخصية سعيد مهران إلى كشف التحولات الصعبة التي عاشها المجتمع المصري مع ثورة الضباط الأحرار (1952)، وإلى تداعياتها على نفسية الأفراد. رغبة الكاتب في التحذير من فئة انتهازية ركبت الثورة لتحقق أهدافها وتتحول إلى قطط سمان تقتات على بؤس الفئات العريضة من المجتمع.

هدف نجيب كذلك إلى التنبيه من خيبة الأمل التي تحس بها فئة عريضة ممن أيدوا الثورة وحملوا قیمها وآمنوا بشعاراتها لكن آمالهم خابت فشرعوا في التمرد على المجتمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *